كتبت ” يا حسين ” كحالتي ….رآها من رأى …لم يعقب أيٌ منهم سوى زميلة سألتني إن كان فتاي أسمه حسيناً ؟!
و قبل أن أبادر في اليوم التالي بلكم الفتاة لسذاجتها المفرطة ، تذكرتني و تذكرت جهلي القديم ….و تذكرت كيف عرفت حسيناً ؟!
من الغريب أن فتاة مثلي لم تسمع من قبل بهذه الحكاية ، ..فتاة ولدت لعائلة على شيء من المعرفة الدينية ، و تندرج من بلد تُرسَم فيه الرموز الدينية كافة على الجدرا ن و مؤخرات السيارات مخافة أن تنسى ! ، فتاة نشأت في بلد آخر توزع فيه الكتيبات الدينية مجاناً باللغات كافة في المحال التجارية ، حتى اللغة السواحلية التي لا تعرفها ، كانت تملك كتب دينية بها….
لكنني لم أسمع أبداً بهذه الحكاية ….لم أسمع بالحسين ، سوى من بضع أقصوصات كقصة العين التي فلقت الحجر ، و أن النبي نزل من على منبره حين رأى ابنا بنته يمشيان و يتعثران و أنه و أخيه الحسن سيدا شباب أهل الجنة ، و أن النبي قال فيه : حسين مني .و أنا من حسين …و فقط …كيف عاش …كيف مات …لم قال فيه النبي ما قال ! لم أعرف !.
أذكر اليوم الذي عرفت فيه الحكاية ، كنت في المرحلة الثانوية و أنتظر صديقة في محطة المترو لنشتري بعض الكتب المدرسية ، تأخرت هي ،و لكي أتجنب فراغ الإنتظار دخلت تلك المكتبة التي كانت تجاور المحطة في حينها ، ..و وقعت عيني على كتاب عباس العقاد المعنون ” أبو الشهداء الحسين بن علي “….أبتعته ، و قرأته بنهم …و يا للغرابة فهمت لغة العقاد التي كنت أجدها على شيءمن التعقيد ، قرأت و بكيت و أنا أمر على السطور التي تصف العداء بين بني أمية و بني هاشم ..و كيف مات حسينا وحيداً بعدما تفرق عنه الأنصار و قتل الأحبة ! أنهزم الحق ! … هكذا الأمر بكل بساطة !
لم استطع النوم ليلتها ، هذه أنا حين يشغلني ما يفوق مقدرتي على الفهم …و ما أقل هذه الأشياء في حينها و ماأكثرها الآن …سأحاول أن أجد تفسيراً كيف سيبرر الناس الخذلان ؟! كيف سينسون من يصلون عليهم خمس ، مرات في يومهم ؟! كيف سيتدثرون بأزواجهم ، و يقبلون أبنائهم ، يتقاسمون طعامهم و يتشاطرون لهوهم ..وينسوهم ؟ لم أفهم في حينها ….و لم أفهم حتى اليوم
قرأت الحكاية كاملة …كيف عُجل بالخروج …كيف كان البلاء و الصمود ..كيف كان العطش وكيف كانت العيون الدامعة ..و هي ترنو إلى السماء…كيف قتلت أقدس النفوس ..و كيف مثلت بأنبل الأجساد …كيف جزت الرأس الشريف لبضع دنانير ..كيف أسرت النسوة …و كيف وقفت زينب …و كيف نجى زين العابدين ؟! …قرأت التفاصيل كلها ….و لم أعرف ما العمل سوى الأسف …ياليت العالم على شيء من ورديته الطفولية
بعدها بعام ، ستشن إسرائيل حربها على غزة ، ساستيقظ كل صباح و أصوات القذائف ترج مخدعي ..ستصادفني تلك الدعوة لمظاهرة إحتجاجاً على الحرب …سأقرر المشاركة ، و لكنني خائفة حتى أن دقات قلبي لتعلو على ضجيج العاصمة !! ..لا أعرف أحد ..و لا أحد يعرفني …لم أخبر أحداً ..و لا أحد سيعلم بي لو لقيت حتفي ..هكذا ظننت …ربما سأموت ! …فلم يسبق لفرد من عائلتي أن شارك في تظاهرة …لعلي سأكون الأولى ..لعلي ساكون الأخيرة …سأقف على الرصيف المقابل لمكان التظاهرة لأشعر أن خوذات عساكر الأمن ستطبق على المتبقي من أنفاسي …و كلما أقتربت شعرت أنهم يزدادون طولاً ..و أنني أزداد تقزماً ..و أن أولئك الشباب المعترضين يقلون عدداً …و أوشك أن أعود أدراجي …لأتذكر حسيناً …لأعبر بقدمي المرتعدتين الطريق ، و بأنفاسي اللهاثة سأنضم للمعترضين لأهتف بأن اللي هيهتف مش هيموت ! .لم أمت يومها !
و في العام الذي تلاه سيصل المتظاهرين إلى وزارة الداخلية …باستيل مصر ! …سأمر أمام مقر أمن الدولة في لاظوغلي …سأشعر أن الهواء رائحته دماً ..سأتذكر كل الحكايات التي سمعتها في عامي السابق ..كل قصص …التعذيب و التكيل التي قرأتها …لكنني و يا للعجب لم أكن خائفة ، و لكنني سأبتهل إلى الله ألا يبتليني بما أبتلى به آخرون …الضرب
! .
و في العام الذي تلاه ستمتلأ البلاد بقنابل الغاز و بفوارغ الرصاص ..و بالحناجر الغاضبة..و بزملاء فقدوا أعينهم و آخرين تشوهت نفوسهم من جراء التعذيب ….سأستقل مع أخي الأصغر الحافلة ليتظاهر للمرة الأولى في حياته ، سيطلق الرصاص على الواقفين أمام الحافلة …سألقي بجسد ي على أخي ….و لكننا بتنا أقل خوفاً ..سنذهب معاً للتظاهرة ..
سأقف في محمد محمود و أنا أسعل من سحابة قنابل الغاز …سأرى هذا الشاب الذي أعرفه و هم يحملونه و هو ممسكاً بعينيه و الدم ينساب بين أصابعه …راحت عين الولد ! …سأدخل إلى المستشفى الميداني مع صديقة و سأشاهد المصابين يتأوهون …أنا التي رفضت الإلتحاق بكلية الطب لأنني لن أحتمل رائحة الدم ! …سأتذكر الدم المراق في كربلاء …منذ أمد بعيد توقفت عن السؤال الذي تنتحر بسببه الجماهير ..ألا و هو: لماذا ! .
في ديسمبر من العام نفسه ، سأستقل الحافلة المتهالكة لأنظر لإنعكاسي في النافذة المتسخة و يعلو صوت نشيجي …ستناولني العجوز الجالسة بجواري محرمة …وتربت على كتفي قائلة بأنني لازلت صغيرة على البكاء في الحافلات ! و أن الكون لا ينتهي بأية مصيبة مهما عظمت … لم أكن قد نمت منذ أسبوع …و لم أعد أقوى على أخذ أنفاسي …فكلما حاولت …رأيت بيادته و هي تركل صدرها …لأشعر بأنها تركلني …و تركل أمي …و تركل صدور كل النساء …و لقد أحرق المتبقي من مقاومتي الجدل مع الناس في شرفهم ! لقد تربينا أن الشرف يمكن بين فخذي المرأة …لكن حين عرت المرأة ، أصبحنا نحن عراة بلا شرف
….بحق الله لم لم ألتحق بقسم الكيمياء …ربما حينها كنت سأتمكن من صنع القنبلة التي ستقتضي على هذا البلد المجنون الذي استحل إغتصاب جماعي لفتاة …سأسير في الجامعة باكية دونما سبب للجميع …و سأسأل أمي أن تحتضنني كما كانت تفعل و أنا طفلة ……..سأستيقظ كل صبيحة لأدعو : يا رب خدني !! و لكنني ذات يوم أخذت قيلولة قلقة ، تقاذفتني فيها كل أضغاث الأحلام …من ثم أنني رأيت حسيناً …رأيت المفاذة و الصحراء المترامية تشقها نهر حجبته أحجار …رأيت سهام تشدها على الرماح وجوه محجوبة ..رأيت الأطفال تصرخ عطشاً و جوعاً ..رأيت جنوداً يشتهون الكريمات …و م رأيت رحلة الموت إلى دمشق ….صرخت يا حسين فيما الهوان يا بني الأكرمين …لما الموت ….لما الطريق إلى ملكوت معبداً بالهلاك …لن نؤثث الملكوت …فلما نحارب من أجله ..أقترب مني و بسط إلي ذراعيه الشريفين ..فأسندت رأسي بأذيذه العالي على صدره الشريف و بكيت ..فربت على قلبي و أسر إلي بسر الأشياء ….فهان هواني و بدأت تعود للأشياء ألوانها تدريجياً و إن نقصت زهوتها .. …يكفيك من الأمر ألا ترتكب جريمة الخذلان….سيدي ربتة واحدة تكفي ! .