حنونة وستائر التعلق

أترك حنونة تلكأ نفسها عندي حجري، وأمسك بالميكروفون، متأكدة من تفعيل خاصية إلغاء الضجيج، وأتخيل نفسي في ستديو تسجيل مجهز، وأشرع في الكلام بصوت إذاعي رصين. استغل حالة الخدر هذه، لأسجل حلقة في برنامجي الإذاعي الذي أبثه عبر الإنترنت.

يختفي صوت صعود وهبوط أنفاسها في التسجيل. تتلذذ هي بالنوم، الذي حرمتني من الغرق في متعته، منذ دخولها في حياتي في الأسابيع الثلاثة الأخيرة.

كل صباح، أتأكد من أن أوانيها نظيفة، أضع لها الطعام الجاف المخصص لها، واستمع لقرمشة أنيابها الصغيرة، أضيف الماء وأنفض السجاد، وأرتب السرير، واشرع في اللعب معها بالجرس، الذي يلبسها رداء الشقاوة.

أشعر بالذنب وأنا أودعها عند الباب، فما عينيها المستجديتين، تتوسل لي ألا أتركها.

“أكل العيش مُر يا حنونة، شوية وهرجع”

أعتني بحنونة، على الرغم أنني لم أحصل على إجازة في فنون الرعاية. أرعاها على أمل أن تعلمني هذه الهرة الصغيرة أنه من الآمن أن أتعلق بستائر الحب، دون قلق القفول والرحيل، ودون توقعات النهايات الأبدية السعيدة.

معلش

بداخلي قدرة على إعادة تصنيع الشجن كلما وخزتني الذاكرة بشظايا مما مضى

وتنشطر الذكريات الأليمة مراراً وتكراراً كخلايا سرطانية لا تموت

أضرب صدري كمعددة من قلب الدلتا، تبكي فقيدها، راحة بال لم تكن

أسدد كفي المنبسط على جيدي في إيقاع وصلني

لا أعرف من أين

أكرره وأسمع صوت من خلف الدموع التي تتكون خلف مقلتي يقول

معلش

معلش

على كثرة ما ساء صيت الكلمة

معلش يا حلوتي

في هذه اللحظة

في هذه اللحظة، أشعر بهالة نور تحاوطني

أرى الغفران جالساً إلى جواري في جلسة ودية، صبيحة الجمعة

أراني كاملة ومبتسمة

دون قهر الولوج في صندوق ضيق، كتب عليه في عجل “السماح”

ودون تجاهل طفايات الحريق الحمراء، المتكومة في كل الأركان

في هذه اللحظة أشعر بالشفقة، دون حنين ودون ألم فكي الذي يئن من كثرة سن السكاكين في فمي للهجوم المباغت

في هذه اللحظة أراني والغفران جالسين صامتين صبيحة الجمعة.

عن الكسل والخمول والإرهاق

بعد أيام من الجري كفأر في عجلة، وما عقبها من صباحات جلست فيها نائمة كأحد “تنابلة السلطان”، أشعر وكأن طاقتي بدأت تتسلل لي من بين الصدوع. أشعر بالوحدة تسحقني أحيانًا، لكنني أعلم أنني لست وحيدة تمامًا، لا مجال أن يكون المرء وحيدًا في محيط من المحبين الواقفين على أهبة الاستعداد لتقديم الأحضان والدعم وسيل من النصائح الرديئة أحيانًا والمفيدة مرات. أؤشر لنفسي بالكسولة في خضم هلعي، لكنني بت اتسائل لو كان الأمر محض إرهاق لا كسل. تعب من الجري المستمر ومحاولة إصلاح كل شيء والحصول على النقاط الكاملة في وقت قياسي. لعله الإرهاق لا الكسل أو لعلها طبيعة الأشياء.

عن الغفران والغضب وأشياء أخرى

“بنسامح عشان ربنا يسامحنا” تردد أمي هذه الكلمات مرارًا وتكرارًا وتتركني كالعادة في استنكار تام لنون الجماعة التي لا أريد لنفسي الالتحاق بها. أحب الغفران والتسامح لكنني أعلم أنه طريق وعر قد لا استسيغ سلوكه على الدوام. أسلكه حينًا وأقاطعه أحيانًا كثيرة دون أن أصم نفسي. لا أحب الفرائض كلها ومن بينها فريضة الغفران التي نصبها الجميع هدفاً وغاية، على الرغم أن التشافي والسلام النفسي والوئام المجتمعي من المفترض أن يكونوا الوجهة المفضلة لكل السفن المصارعة لموجات البحر العاتية. الغفران هو قرار يومي وللبعض منا القرارات اليومية متعبة.

كنت أظن على الدوام أنتي شخص لا يغضب. لم أر ذلك كشيء سيء بالضرورة، لكن لأسباب أعلم بعضها وأجهل جُلها، أصبح ما ظننته مسلكي في الحياة، مسار موحش، يزيدني خوفاً ويقيدني هلعاً. وأنفتح من فوق رأسي صنبور الغضب. في البدء كانت نقاط خفيفة، ومن ثم أنهمر الخزان. أكتشفت أن ثمة ألم يعتصر بطني حين أغضب. أكتشفت أن أصابعي تؤلمني في الصباح لأني أقبض عليهم طيلة الليل في نومي وأنا أخفي وجهي كأنني في معركة حربية. أكتشفت أنني أجز على أسناني في نومي إلى الحد الذي أصبح الصداع يلازمني على غير العادة. أكتشفت أنني لم أكن سوى اسفنجة كبيرة، امتصت كل الإحباطات من الحياة والغضب من تصرفات الناس، دون تسريب. فأتى الإحباط مدويًا ومباغتاً كأنه بحر الظلمات الذي رآه البحارة قديمًا وظنوه لا ينتهي.

أقدر الجزء المحبط بداخلي الذي مل المحاولات. سابقاً كنت أطوق الإحباط بالأمل المفروض بأن الوضع ليس سيئًا وأن أمامي سنوات بلغة الحسابات. أصبحت أترك الإحباط في خلفية المشهد على أمل ألا يكبر وحشًا لا استطيع ترويضه.

اكتشفت أن لغة الحبال والشد والجذب فاشلة مع المشاعر. ليس ثمة مشاعر سلبية تحتاج للسيطرة وليس ثمة مشاعر جيدة كلها وروود وفراشات. المشاعر هي رسل لأنفسنا التي نتمنى أن تكون، ولا يفترض أن نعدم الرسول بل يتوجب أن نسمع لرسالته.

أنا ممتنة لأنني حين أترك البراح لمشاعري، فإنها تخفت، تهدأ ومن ثم تسكن. يباغتني بعدها شعور مريح من الاطمئنان، لأن عاصفة أخرى مرت دون خسائر تذكر.

لحظة تخفت فيها كل الأصوات

في لحظة ما، يتوقف رنين الطناجر في رأسي، تخفت أصوات الكلاب النابحة المحذرة من كل شرور العالم من حولي، يتوقف عقلي الرياضي عن العمليات الحسابية المعقدة التي تريد أن تحسب وجهتي بشكلك دقيق، ويتوقف القلق بداخلي على قراءة كتاب الآلام والاخفاقات. يصبح العطر عطراً، لا دعوة لتذكر يوم مزعج. لا لحظة مؤلمة من قبل، ولا نذير بالألم من بعد. في لحظة ما، تخفت كل الأصوات من الماضي والمستقبل، يرتفع صوت العالم من حولي كأنه معزوفة، وتصبح الألوان أزهى وتغدو التفاصيل أوضح.

لأجل هذه اللحظات، التي أخشع فيها، وأرى فيها اللحظة تحت المجهر، أعيش.

غمامة تحميني على الدوام

وضعت الطبية المخدر في الكانولا، وأخبرتني أنني سأشعر بالخدر. هذه ليست المرة الأولى التي آخذ فيها تخدير كامل عبر الوريد. لسبب مجهول، هذه المرة شعرت بطعم مر في حلقي، وسألت نفسي لو كان التخدير -كالطعام- لكل نوع خواص ومذاق.، ويبدو أن البنج الذي أخذته شديد المرارة، ويدفع عواطفي خارج الجراب الذي أحكمت إغلاقه على قلقي مما يمكن أن يترتب على المنظار. انسلت الدموع من عيني فما أغفو رغمًا عني، ووجدت نفسي أسأل الله: يارب أرجوك فرَّح قلبي. استيقظت في غرفة الإفاقة محاطة بأمي وآية وشوشا وإتصالات أبي وإخوتي وداليا. قد تكون حياتي صعبة في كثير من الأحيان. أرغب كثيراً في تحطيم رأسي بمطرقة من التفكير في الاحتمالات الكثيرة، بداخلي حيرة، ويأخذني عقلي في رحلة عبر الأزقة من مقعدي، أشعر كثيرًا بالقلق مما يمكن أن يكون وبداخلي ضجيج يعلو ويخفت. لكن على الرغم من كل الحيرة والضجيج والخوف، أشعر على الدوام أنني محمية بغمامة، تظلّني في أيام الحر التي أظن أنني سيغشى علي فيها، وتحميني في الأيام الممطرة التي أظن أنني سأغرق فيها. تلازمني الغمامة في كل مكان، في نومي، حتى حين أذهب إلى مكان أظن أن لا أمل ولا رجاء لي فيه، ولا رجوع منه.

عشر مباهج في الحياة (٤)

١- أشعة الشمس اللاذعة التي توقظني من الكآبة والنوم على حدٍ سواء.

٢- الحياة في مدينة جبلية نائية وبعيدة.

٣- الأمل الطفولي الغير مبرر بأن رصيدي من الأيام السعيدة لم ينفذ.

٤- التدثر تحت الأغطية والراحة في غرفتي الصغيرة بعد يوم شاق ومتعب.

٥- وصفة البيض بالتمر التي اكتشفتها مؤخراً والتي تجمع بين الحادق والحلو.

٦- موسم الدولفين في البحر الأحمر ووجه الدولفين البشوش في نظري وتناغهم في جماعات في الصيف.

٧- الراحة التي أشعر بها بعد ممارسة تمارين ال havening techniques التي أكتشفتها مصادفة على تيكتوك منذ شهرين والتي تناسبني أكثر من التأمل الطويل المتصل.

٨- لهفة الأطفال علي وتقديرهم لحبي للخروج والمرح والتسكع والهوايات التافهة.

٩- دفعة الادرينالين التي تجتاحني حين أتمكن من أداء حركة رياضية لم أكن استطع القيام بها. لازلت في داخلي فتاة دحيحة تهوى التنافس والمكسب.

١٠- كل الأماكن التي لم أزرها؛ إيطاليا، اليابان، تونس، المغرب، سوريا، إيران، أيسلندا، على طول القائمة وغرابتها.

بِلية في حلقي

في الجامعة أسرت لي صديقة بأن إحداهن تأخذ المهدئات بشكل منتظم. حكت الأمر همساً كنميمة، كأمر فضائحي. بدى لي الأمر مستغرباً حينها، لأنها بعيني شخص مثلي بحياة شديد الفوضوية ومليئة بالشوك، بدت كشخص شديد الهدوء وحياتها مرتبة إلى حد الملل. قيل حينها أنها كانت تشعر على الدوام بكرة أو بلية في حلقها، ولأن الأمر ليس جسدياً، صُرفت لها المهدئات لعلاج العرض الجسدي العجائبي. لم يكن عندي حينها معرفة بعلم النفس، وكنت أسير في ساقية لا تتوقف دون تفكير أو نظر. في السنتين الماضيتين اضطررت أن أغوص في نفسي في محاولة للفهم. دُفعت لهذا الطريق الوعر، بحكم الضغوطات ونوبات القلق والظروف الخارجة عن السيطرة، ولم أقع في غرام ما رأيت بعدما غضضت نظري عنه طويلاً. كان عندي فرضية أنني لست عاطفية بالضرورة وأن للناس سعات مختلفة للمشاعر الحنونة وربما كوبي كان صغيراً وقطره ضيقاً فيصعب الشرب منه. المرعب أنني بعد كثير من المحاولات، شعرت أنني غريبة عني. المشكلة لم تكن أنني ليس لدي سعة للشعور، المشكلة أنني لا أعرف ما أشعر به غالبية الوقت، أعلق كأنني تمثال جليدي، وأميل لدفس مشاعري في حذائي والسير بها، بدلاً من محاولة الاستماع والتعلم. في محاولة لفهم ما أشعر به، كان علي أن أنظر في رسم بياني يوضح أسامي المشاعر ويصنفهم لأجد مسمى لما أشعر به، كان علي تدوينها بالساعة والحدث والمحفز والمرعب أكثر كان أن أسمح لنفسي بوصف الشعور في جسدي. أكتشفت أنني أختبر المشاعر بشكل جسدي وبآلام مبرحة أحياناً. مثلاً حين أتذكر شخصاً بعينه، أشعر برغبة في التقيؤ. حين أشعر بخوف مما تخفيه الأقدار، يضيق حلقي إلى الحد الذي أظن فيه أن أحدهم أمسك برقبتي يخنقني. الغضب -الشعور الأكثر إيلامًا- يعبرعن نفسه بأوجاع جسدية مبرحة، عظمي كله يوجعني حتى أصابع قدمي و أنفي يؤلموني. الغيرة تأتي سريعة، قلبي يغوص في قدمي ويطفو سريعًا. حين أشعر بالخذلان، أشعر ببلية في حلقي وأبدأ في السعال. الغريب أن الشعور على حدته لا يطول، بضع دقائق ويختفي تماماً. أعرف الشعور وأسميه، أصفه وأحدد موقعه في جسدي وأسأله ما الذي يحتاجه في هذه اللحظة وأسأل نفسي عما أحتاجه، وأشاهده يمضي ومن ثم أهنىء برغد العيش إلى حين. في درس السباحة نصحتني المدربة بألا أخاف من الماء، أن أصاحبه وألا أقاومه. وأن أترك خوفي من الغرق مع المنشفة خارج حمام السباحة الذي يشبه حوض الاستحمام، لكنه أكبر قليلاً. نصحتني بأن أثق في جسدي وفي الماء، لأنهما ليسا عدواي و سيرفعانني للأعلى. أقنعت نفسي أن المشاعر كالسباحة والماء، لا تعاديني ولا تنوي قتلي. أشعر بالشفقة على أوقات فاتت حاولت فيها الهروب مما أشعر مخافة أن أقتل. الاستسلام أحيانًا فضيلة، العمر قد يضيع في مقاومة محتوم لا طائل من محاربته. في حوض السباحة شعرت بضيق في صدري خوفاً من المستقبل، أخبرني القلق أنه موجود ليحميني من السيناريوهات السوداوية التي اختبرت بعض قتامتها ومرارتها في السابق. شكرت الخوف على حنوه وإهتمامه، ومضيت أسأل نفسي عما تحتاجه ، فأخبرتني أن أطمئنها، فذكرت نفسي وإياها بأننا لسنا أسرى لظلال الماضي، وأن ما يوجد خلف الباب الموصد قد يكون جميلاً وساحرًا على نحو غير متوقع، وقد يكون متوقعًا وخاضعًا للخوارزميات التي أهوى دراستها، وقد يكون قاتماً كأفلام الرعب، وعلى كثرة الاحتمالات وتباينها سنعبر ونتلمس الطريق ونجد ما يسرنا على الرغم من كل المذاقات المرة. كل ما نملكه هي هذه اللحظة، وفي هذه اللحظة يطفو جسدي على سطح الماء في انتظار بدء تمريني. في هذه اللحظة ثمة سكون مريح. فسكن قلبي وأتفرج حلقي وانشرح قلبي.